لماذا ذهبنا إلى العمل في يوم ممطر؟
نحن سكان العالم الثالث نسكن في مناطق أغلبها شعبية، وحتى غير الشعبية منها، التي يزعم سُكانها وبُنائها أنها صنعت خصيصًا لأولاد الذوات; الذين يملكون أكثر قليلًا مما نملك ويعيشون رفاهية الذهاب والإياب بعربات الملاكي. كلنا نتساوي مجرد أن تبتل الأرض قليلًا، وربما في تلك الأيام فقط أحمد ربي حقًا على نشأتي في أسرة متوسطة تترنح مابين خط الفقر ويسعدني قولي أنها أصبحت تتصنف من الفقراء أخيرًا فضلًا لعمَ بلحة. وسرعان ما يذكرني عقلي بالحياة ماقبل الفقر، فقط كانت عائلتي تتعالى على الناس كثيرًا ويتكاسلون عن فعل أبسط الأشياء بأيديهم، بل واستعانوا أيضًا بعاملٍ عندهم لتسجيل إسمي في السجل المدني عندما وُلدِت، وهذا يفسر عدم وضوح موعد مولدي الحقيقي للبعض، ولكن تلك قصة أخرى إذا أردت سأخبرك بها لاحقًا. ما أحاول قوله هُنا أننا نستحق التغيرات التي طرأت.
فلديك مدينة نصر والتجمع وغيرهم من المناطق التي تتسم بالسمو (قليلًا) عن غيرها من المناطق التي لم تعترف بها حتى الآن خرائط جوجل. فالأولى تمتلئ كحوض استحمام كبير يسع من الحبايب ألف ولكن تم هجره من قِبل السكان النافرين من المنظر وقلوبهم مليئة بالإستنكار (يااي، كيف نعيش في بلد لا تحتوي على نظام صرف لحل مشكلة السيول؟) ويؤسفني لفظ (سيول) فالذي شهدناه اليوم الماضي لم يقترب من هذا.. فالأمطار كانت خفيفة جدًا تكاد لاتشعر بها، أقرب ما يُقال انها كانت (بتندع) هي فقط استمرت طوال اليوم.
وأنا هنا أتحدث عن القاهرة والجيزة بالتحديد (الأسكندرانية ربنا معاكوا) وعلى هذا فجملة “مصر غرقت في شبر مياه” التي تداولها سكان العالم الإفتراضي ومواقع الأخبار يلمس فعلًا حقيقة ما حدث اليوم الماضي.
هل لدينا الخيار؟
لا. نحن لا نملك الخيار، وربما لو كانت أجازة رسمية لكنَا قررنا النزول إلى الشارع أيضًا لعمل أي شيء آخر يذكرنا بأننا مازلنا أحياء.
ظروف الجو لم تعد تؤخرنا عن خوض مغامرة الذهاب لتأدية واجباتنا المهنية، والمهنية فقط، لا العائلية أو الإجتماعية أو النفسية تجاه أنفسنا، فالعمل يعدك ويفي نهاية كل شهر، ويخصم إذا أخطأت أيضًا نهاية كل شهر، ليس بنهاية بعيدة تلك كالعقاب الإلهي، ولكنها يمكن أن تطول إذا كنت تنتظر القبض. أما العائلة أو الأصدقاء فعائدهم النفسي والإجتماعي غير مضمون، وغير مادي.. وتلك عملات انقرضت منذ بدأ العالم الإفتراضي بغذو عقولنا.
وبالحديث عن مغامرة الذهاب للعمل أعني لعب البالية في الشارع، ولبس مايلزم في أرجلنا للحماية من التزحلق مثل لاعبي الكورة في ماتش عنيف، وعلى رأسنا للحماية من shower لا حاجة له.
المهم أن نصل للمكتب. تلك مهمة كل من قابلته هذا الصباح، يتسلقون السلالم وأعتاب المحلات العالية عن الشوارع المبللة، ويمشون على أطراف أصابعهم ويستغلون الطوب الموضوع في وسط البحيرات الصغيرة للعدو فوقه مثل لعبة الضفدع في جهاز الأتاري القديم. المهم أن نصل للمكتب ونضع أصبعنا على تلك الآلة المتوحشة التي تحسب بالدقيقة والثانية ميعاد وصولك ومغادرتك.
لقد تغير الزمن وتغيرت معه مفاهيم الراحة. فحين يستريح البعض في منازلهم، لا يجد البعض الآخر أية راحة في اللجوء في البيت. البيت يذكرك بقلة حيلتك في الدنيا ووهنك وضعفك أمام القليل من التغير في الطقس. يذكرك بعدم تحقيقك لأحلامك ويُسقطك في حلقة مفرغة من (كيف لم أحقق هذا) و(لما لم أفعل ذاك عندما سنحت الفرصة)
وكيف ظننت أنك ستصل لأحلام الطفولة والمراهقة؟ أين ستوصلك أحلامك أصلا من أعماق هذا الواقع المرير الذي خُلقت فيه؟
لذا من الأفضل لك أن تذهب للعمل وتبيع وقتك للمالك الذي أستغل الفرصة عندما سنحت له، وأسس شركته لتعمل أنت وأمثالك بها. فهكذا تشعر بإنتاجيتك، حتى إذا لم تجني ثمار هذا الإنتاج إلا القليل من المال الذي يعطيك الأمل لتكملة شهر آخر.
لهذا ذهبنا جميعًا إلى العمل في يوم ممطر.